رغم كل هذا العدد الهائل جداً الذي يتضمنه الكون من النجوم إلا أنها غير قادرة على جعل فضاء الكون مضيء دائماً وأبداً! فما هو السبب يا ترى؟
هناك عدة أمور لا تسمح بأن يكون فضاء الكون مضيئاً سوف نتطرق لها جميعها في هذا المقال، لكن دعنا أولاً نأتي بالقصة من أولها لكي نفهم متى طرح مشكل الظلام الذي يجوب كل أرجاء الكون الشاسع.
معضلة التوسع الكوني وظلام الفضاء الكوني
قبل أن يتم إكتشاف توسع الكون إنطلاقاً من تيلسكوب هابل، عندما رأى انزياح الضوء القادم من نجوم المجارات البعيدة نحو الأحمر، كان يَفترض أغلب العلماء بأن الكون الذي يحوي كل هذه الكواكب والنجوم و المجرات ساكن في مجمله لا يتحرك، وهذا الافتراض رغم جماليته ومنطقيته كان يطرح للعلماء معضلتين اثنتين، أولهما لماذا لا ينهار الكون على نفسه في مركز ثقله (أي مركز كتلته) بفعل جاذبيته الذاتية كما هو الحال مع النجوم التي تستمر في الانهيار على نفسها! يعني حسب هذا الافتراض لابد أن يكون الكون في حالة انكماش على نفسه نحو مركز ثقله بفعل جاذبيته الذاتية، و المعضلة الثانية اذا كان الكون ساكن وهذا الكم الهائل من النجوم الذي يوجد بداخله والذي يسطع فيه منذ مليارات السنين والتي تزيد من كمية الضوء التي تسكب فيه في كل جزء من الثانية … لماذا إذن الكون لا يزال مُظلماً، أليس من المفترض أن يصبح ساطعاً مُنيراً بفعل كمية الضوء التي تشع بها كل هذه النجوم التي توجد بداخل الكون!
لكن بعد إكتشاف أن الكون ليس بساكن كما كان يفترض به أن يكون، وإنما هو في حالة توسع مستمر ومتزايد بطريقة متسارعة، وبعد هذا الاكتشاف تم حل هاتين المعضلتين واكتُشِف لغز عدم انهيار الكون على نفسه وكذلك سبب عدم سطوع الكون رغم كمية الضوء الهائلة التي تنتجها النجوم داخله.
الكون بين السكون والتمدد
بعد اكتشاف تمدد الكون كانت الصدمة قوية بالنسبة للعلماء، وعلى رأسهم اينشتاين الذي كذب معادلاته في النسبية العامة وأضاف إليها ثابت كوني حتى ترضخ لفرضية الكون الساكن، وظلت الحيرة تَدب في رؤوس العلماء فكيف للكون أن يتمدد وهو الذي كان يفترض به أن ينكمش على نفسه بسبب جاذبيته الذاتية! لكن الحقيقة العلمية لا يمكن نفيها أو غض الطرف عنها، وهذا هو لُب وأساس المنهج العلمي فنحن مضطرون إذن الى إعادة تفسير الحقائق حديثة الاكتشاف حتى وإن كانت تتعارض مع معتقداتنا أو نظرياتنا العلمية، إذن الكون يتمدد الآن هذا ليس مجرد إفتراض، بل هي حقيقة علمية مرصودة، فكل النظريات والمعادلات يجب أن ترضخ لهذه الحقيقة التي تم اكتشافها.
لكي يستمر الكون في التوسع لابد من وجود طاقة تدفعه الى فعل ذلك، ولكن أين هي هذه الطاقة وما مصدرها! لا أحد يعلم مصدرها حتى اللحظة، لكن العلم لا يقبل التفسيرات الخرافية الميتافيزيقية المبنية على علم الغيب والتي لا دليل عليها، كأن يأتي أحد العلماء ويقول لهم أن الإله هو الذي يسهر على تمدد الكون، فمثل هذه التفسيرات حسب خطوات المنهج العلمي هي مجرد هرطقة، لأنه لا دليل علمي عليها، والمنهج العلمي المحايد والموضوعي كعادته لا يسمح بقبول مثل هذه التفسيرات الميتافيزيقية، فإن كان زعمك إذن هو أن الاله هو من يسهر على ذلك فأعطني التفسير والكيفية التي يحدث به ما تدَّعيه وإلا فإن نظريتك باطلة خرافية لا تصلح بأن تدخل في ميدان العلم الموضوعي المحايد. ولما لم يجد العلماء مصدر يفسر هذه الطاقة التي يتوسع من خلالها الكون تمَّت تسميتها بالطاقة المظلمة، لانها طاقة غير مرصودة ومجهولة المصدر حتى اللحظة. فهذه الطاقة هي التي تدفع الكون بأن يتغلب على جاذبيته الذاتية ويستمر في توسعه بطريقة متسارعة وبسرعة تفوق حتى سرعة الضوء.
معضلة ظلام الفضاء الكوني
والآن لنأتي للمعضلة الثانية التي تتعلق بلغز الظلام الذي يملأ كل أرجاء الكون، هذا اللغز تم حله مباشرة بعد اكتشاف تمدد الكون، والسبب في ذلك يكمن في أن المجرات تتباعد من بعضها البعض بسرعة تفوق سرعة الضوء، وهذا يجعل الضوء الصادر من النجوم التي توجد بالمجرة ينزاح نحو الأحمر والى أشعة اخرى لها طول موجي أكبر غير مرئية بالعين المجردة، أي أن كمية كبيرة من هذا الضوء يتحول بفعل تمدد الكون الى موجات كهرومغناطيسية غير مرئية، والسبب الثاني هو بما أن الكون في حالة تمدد أي أنه يتوسع، فهذا يجعل كمية الضوء داخله تتناقص و لا تتزايد، لأن كمية الضوء التي تنتجها النجوم في كل جزء من الثانية داخل الكون ضعيفة مقارنة مع السرعة التي يتمدد ويتوسع بها الكون، الأمر شبيه بشخص يحاول ملأ مسبح له قاع متحرك نحو الاسفل بالماء لأن ازدياد حجم المسبح لا يسمح بازدياد مستوى حجم الماء داخله. والسبب الثالث هو أن الكون لا يحتوي على غازات قريبة من بعضها البعض وملتحمة كما هو الحال مع غلاف جونا الأرضي، إذ يتم تهييج هذه الجزيئات من طرف الشمس فتعيد إرسال ضوء بدورها مما يفسر ضوء النهار الذي نراه، لأن الغلاف الجوي للأرض هو ما يجعل الأرض مضيئة نهاراً فلو لا وجوده لما كان هناك نهار.
الظلام ليلاً بالأرض
يضيء الغلاف الجوي للأرض نهاراً بسبب كمية الطاقة الكهرومغناطيسية الهائلة القادمة من الشمس و القادرة على تهييج الغازات التي يحتوي عليها الغلاف الجوي للأرض، مما يجعل هذا الأخير يعيد بعث هذا الضوء في كل الاتجاهات الشيء الذي يجعل سماء الأرض مضيئة نهاراً، ولو كانت النجوم البعيدة عنا في غياب الشمس قادرة على تزويد الغلاف الجوي الأرضي بنفس كمية الطاقة الصادرة عن الشمس لَكُنا نعيش النهار دائماً بدون وجود للظلام ليلاً، ولكن كمية الطاقة هذه الصادرة عن النجوم غير قادرة على تهييج الغلاف الجوي ليلاً لكي يضيء، وهذا ما يفسر وجود الظلام ليلاً، لكن عندما يعكس القمر كمية لا بأس بها من ضوء الشمس ليلاً فإن الأرض تصبح مضيئة شيء ما ولكن ليس بالقدر الكافي كضوء النهار .
تحرير : شعيب المستعين
مراجعة لغوية : نادية بوحفص